فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} قيل هو عذاب النار، وقيل: أهوال القيامة وقيل: هموم الدنيا والصواب العموم في ذلك كله.
{دَارَ المقامة} هي الجنة والمقامة هي الإقامة، والموضع وإنما سميت الجنة دار المقامة، لأنهم يقومون فيها ولا يخرجون منها {نَصَبٌ} النصب تعب البدن، واللغوب تعب النفس، اللازم عن تعب البدن.
{يَصْطَرِخُونَ} يفتعلون من الصراخ أي يستغيثون فيقولون: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا} وفي قولهم: {غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} اعتراف بسوء عملهم وتندم عليه.
{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} الآية توبيخ لهم وإقامة حجة عليهم وقيل: إن مدة التذكير ستون سنة وقيل: أربعون وقيل: البلوغ والأول أرجح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عمره الله ستين فقد أعذر إليه في العمر» {وَجَاءَكُمُ النذير} يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: يعني الشيب، لأنه نذير بالموت والأول أظهر.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي بما تضمره الصدور وتعتقده، وقال الزمخشري: ذات هنا تأنيث ذو معنى صاحب لأن المضمرات تصحب الصدور.
{خَلاَئِفَ} ذكر الأنعام {مَقْتًا} المقت احتقار الإنسان وبغضه لأجل عيوبه أو ذنوبه.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} الآية احتجاج على المشركين وإبطال لمذهبهم {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ} أي نصيب {على بَيِّنَةٍ} قرأ نافع {بيِّنات} أي على أمر جليّ، والضمير في أتيناهم يحتمل أن يكون للأصنام أو للمشركين وهذا أظهر في المعنى والأول أليق بما قبله من الضمائر.
{أَن تَزُولاَ} في موضع مفعول من أجله تقديره كراهة أن تزولا أو مفعول به لأن يمسك بمعنى يمنع {وَلَئِن زَالَتَآ} أي لو فرض زوالهما لم يمسكهما أحد، وقيل: أراد زوالهما يوم القيامة عند طيّ السماء وتبديل الأرض ونسف الجبال {مِّن بَعْدِهِ} أي من بعد تركه الإمساك.
{وَأَقْسَمُواْ بالله} الضمير لقريش وذلك أنهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى جاءتهم الرسل فكذبوهم، والله لئن جاءنا رسول لنكونن أهدى منهم {إِحْدَى الأمم} يعني اليهود والنصارى {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} يعني محمد صلى الله عليه وسلم.
{استكبارا} بدل من نفورًا أو مفعول من أجله {وَمَكْرَ السيىء} هذا من إضافة الصفة إلى الموصوف كقولك: مسجد الجامع وجانب الغربي والأصل أن يقال: المكر السيء {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} أي لا يحيط وبالُ المكر السيء إلا بمن مكره ودبره، وقال كعب لابن عباس: إن في التوراة من حفر حفرة لأخيه وقع فيها فقال ابن عباس: أنا أجد هذا في كتاب الله: ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين} أي هل ينتظرون إلا عادة الأمم المتقدمة في أخذ الله لهم وإهلاكهم للرسل.
{وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ} أي لا يفوته شيء ولا يصعب عليه.
{مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} الضمير للأرض والدابة عموم في كل ما يدب وقيل: أراد بني آدم خاصة {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} يعني يوم القيامة وباقي الآية وعد ووعيد. اهـ.

.قال النسفي:

{يا أيّها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله}.
قال ذو النون: الخلق محتاجون إليه في كل نفس وخطرة ولحظة وكيف لا ووجودهم به وبقاؤهم به! {والله هُوَ الغنى} عن الأشياء أجمع {الحميد} المحمود بكل لسان، ولم يسمهم بالفقراء للتحقير بل للتعريض على الاستغناء ولهذا وصف نفسه بالغني الذي هو مطعم الأغنياء، وذكر الحميد ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه والجواد المنعم عليهم إذ ليس كل غني نافعًا بغناه إلا إذا كان الغني جوادًا منعمًا وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم.
قال سهل: لما خلق الله الخلق حكم لنفسه بالغنى ولهم بالفقر، فمن ادعى الغنى حجب عن الله، ومن أظهر فقره أوصله فقره إليه.
فينبغي للعبد أن يكون مفتقرًا بالسر إليه ومنقطعًا عن الغير إليه حتى تكون عبوديته محضة، فالعبودية هي الذل والخضوع وعلامته أن لا يسأل من أحد.
وقال الواسطي: من استغنى بالله لا يفتقر ومن تعزز بالله لا يذل.
وقال الحسين: على مقدار افتقار العبد إلى الله يكون غنيًا بالله وكلما ازداد افتقارًا ازداد غنى.
وقال يحيى: الفقر خير للعبد من الغنى لأن المذلة في الفقر والكبر في الغنى، والرجوع إلى الله بالتواضع، والذلة خير من الرجوع إليه بتكثير الأعمال.
وقيل: صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء.
وقال الشبلي: الفقر يجر البلاء وبلاؤه كله عز.
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} كلكم إلى العدم فإن غناه بذاته لا بكم في القدم {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو بدون حمدكم حميد {وَمَا ذلك} الأنشاء والإفناء {عَلَى الله بِعَزِيزٍ} بممتنع.
وعن ابن عباس: يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئًا.
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى.
والوزر والوقر أخوان، ووزر الشيء إذا حمله، والوازرة صفة للنفس، والمعنى أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته لا تؤاخذ نفس بذنب نفس كما تأخذ جبابرة الدنيا الولي بالولي والجار بالجار.
وإنما قيل {وازرة} ولم يقل ولا تزر نفس وزر أخرى، لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى منهن واحدة إلا حاملة وزرها لا وزر غيرها.
وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] وارد في الضالين المضلين فإنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم وذلك كله أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم، ألا ترى كيف كذبهم الله تعالى في قولهم {اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خطاياكم} [العنكبوت: 12] بقوله: {وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شَىْء} [العنكبوت: 12] {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} أي نفس مثقلة بالذنوب أحدًا {إلى حِمْلِهَا} ثقلها أي ذنوبها ليتحمل عنها بعض ذلك {لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شيء وَلَوْ كَانَ} أي المدعو وهو مفهوم من قوله: {وَإِن تَدْعُ} {ذَا قربى} ذا قرابة قريبة كأب أو ولد أو أخ.
والفرق بين معنى قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} ومعنى {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء} أن الأول دال على عدل الله في حكمه وأن لا يؤاخذ نفسًا بغير ذنبها، والثاني في بيان أنه لا غياث يومئذ لمن استغاث حتى إن نفسًا قد أثقلتها الأوزار لودعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب ولم تغث وإن كان المدعو بعض قرابتها {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي إنما ينتفع بإنذارك هؤلاء {بالغيب} حال من الفاعل أو المفعول أي يخشون ربهم غائبين عن عذابه، أو يخشون عذابه غائبًا عنهم.
وقيل: بالغيب في السر حيث لا اطلاع للغير عليه {وَأَقَامُوا الصلاوة} في مواقيتها {وَمَن تزكى} تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي {فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ} وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة لأنهما من جملة التزكي {وإلى الله المصير} المرجع وهو وعد للمتزكي الثواب.
{وَمَا يَسْتَوِى الأعمى والبصير} مثل للكافر والمؤمن أو للجاهل والعالم.
{وَلاَ الظلمات} مثل للكفر {وَلاَ النور} للإيمان {وَلاَ الظل وَلاَ الحرور} الحق والباطل أو الجنة والنار.
والحرور الريح الحار كالسموم إلا أن السموم تكون بالنهار والحرور بالليل والنهار.
عن الفراء {وَمَا يَسْتَوِى الأحياء وَلاَ الأموات} مثل للذين دخلوا في الإسلام والذين لم يدخلوا فيه وزيادة.
لا لتأكيد معنى النفي.
والفرق بين هذه الواوات أن بعضها ضمت شفعًا إلى شفع وبعضها وترًا إلى وتر {إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن في القبور} يعني أنه قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه فيهدي من يشاء هدايته، وأما أنت فخفي عليك أمرهم فلذلك تحرص على إسلام قوم مخذولين.
شبه الكفار بالموتى حيث لا ينتفعون بمسموعهم {إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع وإن كان من المصرين فلا عليك {إِنَّا أرسلناك بالحق} حال من أحد الضميرين يعني محقًا أو محقين أو صفة للمصدر أي إرسالًا مصحوبًا بالحق {بَشِيرًا} بالوعد {وَنَذِيرًا} بالوعيد {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ} وما من أمة قبل أمتك.
والأمة: الجماعة الكثيرة وجد عليه أمة من الناس ويقال لأهل كل عصر أمة، والمراد هنا أهل العصر وقد كانت آثار النذارة باقية فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام فلم تخل تلك الأمم من نذير، وحين اندرست آثار نذارة عيسى عليه السلام بعث محمد عليه السلام {إِلاَّ خَلاَ} مضى {فِيهَا نَذِيرٌ} يخوفهم وخامة الطغيان وسوء عاقبة الكفران، واكتفى بالنذير عن البشير في آخر الآية بعدما ذكرهما لأن النذارة مشفوعة بالبشارة فدل ذكر النذارة على ذكر البشارة.
{وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} رسلهم {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم} حال و قد مضمرة {بالبينات} بالمعجزات {وبالزبر} وبالصحف {وبالكتاب المنير} أي التوراة والإنجيل والزبور.
ولما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسنادًا مطلقًا وإن كان بعضها في جميعهم وهي البينات وبعضها في بعضهم وهي الزبر والكتاب وفيه مسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم {ثُمَّ أَخَذْتُ} عاقبت {الذين كَفَرُواْ} بأنواع العقوبة {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} إنكاري عليهم وتعذيبي لهم {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بالماء {ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} طرق مختلفة جدة كمدة ومدد {بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها وَغَرَابِيبُ سُودٌ} جمع غربيب وهو تأكيد للأسود.
يقال: أسود غربيب وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب.
وكان من حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك أصفر فاقع إلا أنه أضمر المؤكد قبله والذي بعده تفسير للمضمر، وإنما يفصل ذلك لزيادة التوكيد حيث يدل على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار جميعًا، ولابد من تقدير حذف المضاف في قوله: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} أي ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود حتى يئول إلى قولك: ومن الجبال مختلف ألوانه كما قال: {ثمرات مختلفًا ألوانها}.
{وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ ألوانه} يعني ومنهم بعض مختلف ألوانه {كذلك} أي كاختلاف الثمرات والجبال.
ولما قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس وما يستدل به عليه وعلى صفاته، أتبع ذلك {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماؤا} أي العلماء به الذين علموه بصفاته فعظموه ومن ازداد علمًا به ازداد منه خوفًا ومن كان علمه به أقل كان آمن.
وفي الحديث «أعلمكم بالله أشدكم له خشية» وتقديم اسم الله تعالى وتأخير العلماء يؤذن أن معناه أن الذين يخشون الله من عباده العلماء دون غيرهم ولو عكس لكان المعنى أنهم لا يخشون إلا الله كقوله: {وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ الله} [الأحزاب: 39] وبينهما تغاير، ففي الأول بيان أن الخاشين هم العلماء، وفي الثاني بيان أن المخشي منه هو الله تعالى.
وقرأ أبو حنيفة وابن عبد العزيز وابن سيرين رضي الله عنهم {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} والخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى إنما يعظم الله من عباده العلماء {إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} تعليل لوجوب الخشية لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم والمعاقب المثيب حقه أن يخشى.
{إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله} يداومون على تلاوة القرآن {وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً} أي مسرين النفل ومعلنين الفرض يعني لا يقتنعون بتلاوته عن حلاوة العمل به {يَرْجُونَ} خبر أن {تجارةً} هي طلب الثواب بالطاعة {لَّن تَبُورَ} لن تكسد يعني تجارة ينتفى عنها الكساد وتنفق عند الله {لِيُوَفّيَهُمْ} متعلق ب {لَّن تَبُورَ} أي ليوفيهم بنفاقها عنده {أُجُورَهُمْ} ثواب أعمالهم {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} بتفسيح القبور أو بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم أو بتضعيف حسناتهم أو بتحقيق وعد لقائه.
أو {يَرْجُونَ} في موضع الحال أي راجين.
واللام في {لِيُوَفّيَهُمْ} تتعلق ب {يَتْلُونَ} وما بعده أي فعلوا جميع ذلك من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق لهذا الغرض وخبر أن {إِنَّهُ غَفُورٌ} لفرطاتهم {شَكُورٍ} أي غفورٌ لهم شكور لأعمالهم أي يعطي الجزيل على العمل القليل {والذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} أي القرآن.
و من للتبيين {هُوَ الحق مُصَدّقًا} حال مؤكدة لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما تقدمه من الكتب {إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} فعلمك وأبصر أحوالك ورآك أهلًا لأن يوحي إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب.
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} أي أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من بعدك أي حكمنا بتوريثه {الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} وهم أمته من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطًا ليكونوا شهداء على الناس، واختصهم بكرامة الإنتماء إلى أفضل رسله.
ثم رتبهم على مراتب فقال: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} وهو المرجأ لأمر الله {وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} هو الذي خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات} وهذا التأويل يوافق التنزيل فإنه تعالى قال: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين} [التوبة: 100] الآية وقال بعده: {وَءَاخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] الآية وقال بعده: {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ الله} [التوبة: 106] الآية.
والحديث فقد رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر بعد قراءة هذه الآية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له» وعنه عليه السلام: «السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يحاسب حسابًا يسيرًا ثم يدخل الجنة، وأما الظالم لنفسه فيحبس حتى يظن أنه لا ينجو ثم تناله الرحمة فيدخل الجنة» رواه أبو الدرداء.
والأثر فعن ابن عباس رضي الله عنهما: السابق المخلص، والمقتصد المرائي، والظالم الكافر بالنعمة غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة.
وقول السلف فقد قال الربيع بن أنس: الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد صاحب الصغائر، والسابق المجتنب لهما.
وقال الحسن البصري: الظالم من رجحت سيئاته، والسابق من رجحت حسناته، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته.
وسئل أبو يوسف رحمه الله عن هذه الآية فقال: كلهم مؤمنون، وأما صفة الكفار فبعد هذا وهو قوله: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} وأما الطبقات الثلاث فهم الذين اصطفى من عباده فإنه قال: {فَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمُ} {وَمِنْهُمُ} والكل راجع إلى قوله: {الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} وهم أهل الإيمان وعليه الجمهور.